فصل: (سورة آل عمران: الآيات 106- 107)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة آل عمران: الآيات 106- 107]

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ الله هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)}.

.الإعراب:

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الظرف متعلق بمحذوف تقديره:
اذكر، فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لبيان حال الفريقين. وجملة تبيض وجوه في محل جر باضافة الظرف إليها. ووجوه فاعل، وتسود وجوه عطف على تبيض وجوه {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} الفاء للتفريع وفيها معنى الاستئناف فتكون الجملة مستأنفة وأما حرف شرط وتفصيل والذين اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة اسودت وجوههم صلة {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ} الجملة مقول قول محذوف مع الفاء الرابطة لجواب أما، أي: فيقال لهم:
أكفرتم، وجملة {فيقال} خبر الذين وهي جواب أما وشرط أما لا يذكر صريحا بل التزموا حذفه. ويظهر عند حل المعنى والتعبير بما نابت عنه أما وهو مهما، والتقدير: مهما يكن من شيء فأما الذين اسودت يقال لهم كذا، فاحفظه وقس عليه، والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وكفرتم فعل وفاعل وبعد ظرف متعلق بكفرتم وإيمانكم مضاف إليه {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عما هو مقدر أي إذا عرفتم ذلك فذوقوا العذاب، وبما جار ومجرور متعلقان بذوقوا وما مصدرية وهي مع مدخولها في محل جر بالباء أي بسبب كفركم وجملة تكفرون في محل نصب خبر كنتم {َأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} تقدم إعرابها {فَفِي رَحْمَتِ الله هُمْ فِيها خالِدُونَ} الفاء رابطة لجواب أما والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر الذين وهم مبتدأ وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدون وخالدون خبرهم وجملة هم فيها خالدون حالية.

.البلاغة:

1- في هذه الآية فن التدبيج وهو فن دقيق المسلك، حلو المأخذ، رشيق الدلالة، وحده أن يذكر الشاعر أو الناثر لونين أو أكثر، يقصد بذلك الكناية أو التورية عما يريد من أغراض، وقد لا يقصد غير الوصف. فالبياض والسواد لونان متضادان، والتضاد يعني التطابق، ولكنه كنى بهما عن فريقين من الناس، فمن كان من أهل الحق وسم ببياض اللون ونصاعته، ومن كان من أهل الباطل وسم بسواد الليل وحلكته، ولا يخفى ما في ذلك من التهويل، وتباين المصير المحتوم لكل من الفريقين. ومن طريف التدبيج في الشعر وما ينطوي عليه من كناية قول أبي تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي شهيد الجهاد:
تردى ثياب الموت حمرا فما دجا ** لها الليل الا وهي من سندس خضر

والتدبيج تفعيل من الدبج وهو النقش والتزيين، وأصل الديباج فارسي معرب. ومن طريفه قول صفي الدين الحلي:
بيض صنائعنا سود وقائعنا ** خضر مرابعنا حمر مواضينا

2- الاستعارة في ذوق العذاب فقد شبهه بالمر مما يؤكل، ثم حذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه وهو الذوق. ولا يخفى ما فيه من الشعور بالمرارة، وذلك على طريق الاستعارة التبعية المكنية.
3- المجاز المرسل في {رحمة الله} والعلاقة فيه الحالية، لأن الرحمة لا يحل فيها الإنسان وإنما يحل في مكانها، وهو الجنة.

.[سورة آل عمران: الآيات 108- 109]

{تِلْكَ آياتُ الله نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)}.

.الإعراب:

{تِلْكَ آياتُ الله نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} كلام مستأنف مسوق لبيان ما اشتمل على نعيم الأبرار وعذاب الكفار. واسم الإشارة مبتدأ وآيات الله خبره وجملة نتلوها عليك حالية أي متلبسة بالحق، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أيضا {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ} الواو استئنافية وما نافية حجازية والله اسمها وجملة يريد في محل نصب خبرها وظلما مفعول به وللعالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لـ {ظلما} والعالمين مجرور بالياء نيابة عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم {وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} الواو استئنافية ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة للموصول لا محل له من الإعراب وما في الأرض عطف على {ما في السموات} {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الْأُمُورُ} الواو حرف عطف وإلى الله جار ومجرور متعلقان بترجع وترجع فعل مضارع مبني للمجهول والأمور نائب فاعل.

.البلاغة:

(التكرير) في هذه الآية فن التكرير. وقد اختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله: {وإلى الله ترجع الأمور} ظاهرا وقد تقدم اسمه ظاهرا في قوله: {ولله ما في السموات وما في الأرض} فقال بعض البصريين: ذلك نظير قول العرب: وأما زيد فذهب زيد وكما قال الشاعر:
ألا لا أرى الموت يسبق الموت شيء ** نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

فأظهر في موضع الإضمار. وقال بعض نحويي الكوفة ليس ذلك نظير هذا البيت لأن موضع الموت في البيت موضع كناية، أي ضمير، وليس ذلك كذلك في الآية، لأن قوله: {ولله ما في السموات وما في الأرض} خبر، ليس من قوله: {وإلى الله ترجع الأمور} في شيء، وذلك أن كل واحدة من القصتين مفارق معناها معنى الأخرى، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها، غير محتاجة إلى الأخرى، وما قال الشاعر: لا أرى الموت، محتاج إلى تمام الخبر عنه. وهذا القول الثاني عندنا أولى بالأرجحية، لأن كتاب الله عز وجل لا توجه معانيه، وما فيه من البيان، إلى الشواذ من الكلام والمعاني، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني وجه صحيح موجود.

.[سورة آل عمران: آية 110]

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)}.

.الإعراب:

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} كلام مستأنف مسوق لبيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم ولتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الجنوح إلى الخير والصدوف عن المنكر، وكان واسمها وخير أمة خبرها وقيل: كان تامة، أي وجدتم وخلقتم خير أمة، والأول أرجح وأخرجت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هي، وللناس جار ومجرور متعلقان بأخرجت والجملة في محل نصب خبر ثان لكنتم وقيل نصب على الحال وقيل نعت لأمة والأوجه متساوية الرجحان {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الجملة خبر ثالث لكنتم أو نصب على الحال، واختار الزمخشري أن تكون مستأنفة مبينة كونهم خير أمة، كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم وأرى انها مفسرة لا محل لها، وتأمرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بتأمرون ومثلها وتنهون عن المنكر {وَتُؤْمِنُونَ بِالله} الجملة معطوفة {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ} الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عن سؤال فحواه: كيف قال ذلك مع أن غير الإيمان لا خير فيه حتى يقال: إن الإيمان خير منه، ولو شرطية وآمن فعل ماض مبني على الفتح وأهل الكتاب فاعل واللام واقعة في جواب لو، وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على المصدر وهو الإيمان المدلول عليه بفعله وخيرا خبر كان ولهم جار ومجرور متعلقان بـ {خيرا} والجملة واقعة في جواب الشرط {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} الجملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عما ينشأ من لو الشرطية الدالة على انتفاء الإيمان، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والمؤمنون مبتدأ مؤخر وأكثرهم مبتدأ والفاسقون خبره.

.البلاغة:

(المقابلة) في الآية فن المقابلة، فقد تعدّد الطباق بين تأمرون وتنهون وبين المعروف والمنكر وبين {المؤمنون} و{الفاسقون}، وقد تقدم الكلام عن المقابلة.

.[سورة آل عمران: الآيات 111- 112]

{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بأنهمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ الله وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)}.

.اللغة:

{ثُقِفُوا} تقدم معناها فيما سبق وهي هنا بمعنى أدركوا وغلبوا وذلوا. ومن أقوالهم: طلبناه فثقفناه في مكان كذا، أي أدركناه.
وثقفت العلم في أوحى مدة إذا أسرعت في أخذه. وكان أبو تمام ثقفا لقفا {باءوا}: رجعوا.

.الإعراب:

{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} كلام مستأنف مسوق لبيان أن ضررهم منقطع يقع في فترات لا يؤبه لها. ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويضروكم فعل مضارع منصوب بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل والكاف مفعول به وإلا أداة حصر وأذى مفعول مطلق أي ضررا مقتصرا على أذى مؤقت لا يلبث أن يزول فالاستثناء مفرغ، وقيل: الاستثناء هنا منقطع، وعليه اقتصر ابن جرير الطبري، قال:
وهذا من الاستثناء المنقطع الذي هو مخالف معنى ما قبله كما قيل: ما اشتكى شيئا إلا خيرا، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعا {وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ} الواو عاطفة وإن شرطية ويقاتلوكم فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به أول والأدبار مفعول ثان {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} ثم حرف عطف وتراخ وقد أتت هنا لمجرد الاستئناف ولا نافية وينصرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل، وسيأتي في باب البلاغة سر العدول عن العطف على الفعل المجزوم كما يقتضيه سياق الكلام، كأنه قال: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا} الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ضرب الذلة على اليهود وضربت فعل ماض مبني للمجهول والتاء للتأنيث وعليهم جار ومجرور متعلقان بضربت والذلة نائب فاعل وأينما اسم شرط جازم منصوب على الظرفية المكانية متعلق بضربت وثقفوا فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط والواو نائب فاعل والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فقد ضربت عليهم {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ الله} إلا أداة استثناء والجار والمجرور في محل نصب على الاستثناء من أعم الأحوال فيكون مستثنى بمعنى الحال أي ضربت عليهم الذلة في أعم أحوالهم إلا في هذه الحالة وهي اعتصامهم بحبل من الله ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، وعلى هذا فهو استثناء متصل، وقال آخرون: هو منقطع.
وسيأتي مزيد بيان لهذا الإعراب في باب الفوائد {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} عطف على قوله بحبل من الله {وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ الله} الواو حرف عطف وباءوا فعل ماض معطوف والواو فاعل والجملة عطف على جملة ضربت وبغضب جار ومجرور متعلقان بباءوا ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لغضب {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} عطف على ما تقدم وعليهم جار ومجرور متعلقان بضربت والمسكنة نائب فاعل ضربت وكرر الجملة تأكيدا للذلة المضروبة على اليهود {ذلِكَ بأنهمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ الله} جملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب ضرب الذلة والمسكنة على اليهود واسم الاشارة مبتدأ والاشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة وغضب الله، وبأنهم الباء حرف جر، وأن واسمها والمصدر المؤول من أن وما في حيزها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر اسم الإشارة، وكان واسمها، والجملة خبر {أنهم}، وجملة يكفرون في محل نصب خبر كانوا وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بيكفرون {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} عطف على ما تقدم والأنبياء مفعول به وبغير حق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال {ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} كلام مستأنف سيق لبيان تعليل العلة، فعصيانهم سبب لكفرهم وقتلهم الأنبياء، وهما سبب الذلة والمسكنة والغضب، واسم الإشارة مبتدأ والباء حرف جر وما مصدرية أي: بسبب عصيانهم، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {ذلك}، وكان واسمها، وجملة يعتدون خبرها.

.البلاغة:

اشتملت هاتان الآيتان على ضروب من البلاغة بلغت أسمى حدود الإعجاز ولئن أسهب علماء البلاغة، عليهم رضوان الله، في إظهار أسرارها، وسبر أغوارها واكتناه مخبآتها، فقد أتيح لنا أن نشهد بأم أعيننا مصير فلسطين بسبب اليهود، وبسبب ما نالوه من نجاح خالب مؤقت، وسنوجز القول فيما قاله علماء البلاغة أولا، ثم نعقب عليه بما استنتجناه بأنفسنا وحدسنا به من مآل اليهود الذي لابد منه.
1- في الآية الأولى فن يقال له: فن الأيضاح، وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه، والإشكال الذي يحله الأيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي إعرابها، فإن في ظاهر هذه الآية إشكالين أحدهما من جهة الإعراب والآخر من جهة المعنى. فأما الذي من جهة الإعراب فعطف ما ليس بمجزوم على المجزوم، والذي من جهة المعنى أن صدر الآية يغني عن فاصاتها، لأن توليهم عند المقاتلة دليل على الخذلان، والخذلان والنصر لا يجتمعان والجواب أن الله سبحانه أخبر المؤمنين بأن عدوهم هذا إن قاتلهم انهزم ثم أراد تكميل العدة بإخبارهم أنه مع توليه الأن لا ينصر أبدا في الاستقبال فهو مخذول أبدا ما قاتلهم.
ولو وقع الاقتصار على دون الفاصلة لم يوف الكلام بهذا المعنى المراد، لأنه لا يعطي قوله: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار} أنهم متى قاتلوهم كان الأمر كذلك فإن قولك: إذا جاء زيد أكرمته لا يلزم منه متى جاء على الدوام والاستمرار كان عليك الإكرام، وإنما يعطي أنه إن جاءك أكرمته لتلك الجيئة، ولعلمه سبحانه أن الاقتصار على ما هو دون الفاصلة لا يفهم منه دوام هذه البشارة إلى آخر الأبد، والمقصود ديمومتها، قال: {ثم لا ينصرون} ومنع الفعل الجزم وإن عطف على مجزوم ليبقى على المعنى الذي وضعت له صيغة المضارع من الدلالة على الحال والاستقبال، ونوى في الفعل الاستئناف لا العطف على ما تقدم، والله سبحانه يريد إدخال الطمأنينة في روع المؤمنين الذين تعاهدوا على الموت، لأن الاستشهاد في معمعان الوغى وصحصحان الجهاد هو مستهل حياة قشيبة جديدة هي حياة المجد والخلود على حد قول الشاعر:
إن تسل أين قبور العظما ** فعلى الأفواه أو في الأنفس

نقول: أراد الله سبحانه أن يؤكد للمؤمنين المجاهدين أن النصر سيكون حليفهم فأعقب الكلام الذي تم بجملة توضح اليقين وهي قوله: {ثم لا ينصرون} ليفيد الديمومة والاستمرار في الجهاد، وعدم الاستسلام للعدو، ويبشرهم بأن عدوهم مخذول أبدا وأن عليهم أن يباشروا قتاله في كل وقت، وأن لا يهنوا إذا خيل إليهم أن عدوهم قد ظهر عليهم، فلابد له أن يخذل في مستقبل الأيام، فإن تاريخ الأمة لا يحسب بحساب الزمن، ولا يعد بالسنين القليلة وإن حياة الأمم والشعوب ليست كحياة الافراد.
والإشكال الثاني أنه عطف الفعل المضارع المرفوع على المضارع المجزوم، وهو يبدو للوهلة الأولى أو لأصحاب النظر السطحي المجرد أنه خلاف الأولى، ولكنه عدل عن الجزم إلى الرفع ليعلم أن عدم النصر لهم هو عهد قطعه الله على نفسه، ومن أصدق من الله حديثا أو عهدا وإن انتفاء النصر عنهم مستمر إلى الأبد، ولا عبرة في الحالات الطارئة، والظروف الاستثنائية المؤقتة التي تسنح لهم في الفترات الطويلة المتعاقبة التي ينتصرون فيها فعدل عن الجزم الذي يقتضيه سياق الكلام، كأنه قال ثم أخبركم مبشرا بأنهم لا ينصرون في المستقبل أبدا. كما أشرنا إلى ذلك في باب الإعراب.
2- والفن الثاني في هذه الآية هو: فن التعليق. وهو أن يتعلق الكلام إلى حين، ولذلك اختير لفظ ثم دون حروف العطف، لأنه يدل على المهلة الملائمة لدلالة الفعل المضارع على الاستقبال، كأنه قال: ثم هاهنا ما هو أعلى في الامتنان، وأسمى في مراتب الإحسان، وهو أن هؤلاء اليهود قوم لا ينصرون البتة مهما وأتتهم الامكانيات، ومهما أغدقت عليهم المساعدات.
3- والفن الثالث في هذه الآية هو فن المطابقة المعنوية بين نصر المؤمنين وخذلان الكافرين.
4- والفن الرابع في هذه الآية هو: فن الاحتراس. لأن الكلام لو عطف بالواو مثلا لظن قصار النظر أنهم إنما وعدوا بالنصر في تلك الحالة ليس غير، فدفع هذا الظن بكلمة ثم التي تقطع قطعا لا يرين عليه الشك، بأن النتيجة الحتمية هي النصر المؤزر للمؤمنين، خشية أن يظن بعض الذين لا يحبون المسارعة إلى الموت بأن الوعد بالنصر في تلك الحالة فقط، وأن الحرب قد تكون سجالا، وأنه قد يأتي دورهم بالنصر، فنفى سبحانه هذا الاحتمال، وقطع على هؤلاء الظانين الطريق لالتماس المعاذير للتخلف عن الجهاد.
5- والفن الخامس: هو الإيغال أي عدم الوقوف عند تولية الأدبار مع تمام الكلام، فأتم بما يوافق بقية الفواصل مع ما يكمل به المعنى التام.
6- ثم جاءت الآية الثانية مكملة للفنون التي تضمنتها الآيتان وذلك على الوجه التالي:
آ- الكناية التي هي هنا عبارة عن نسبة، وقد تقدم ذكرها، وهي في ضرب الذلة والمسكنة عليهم كما يضرب البيت أو القبة على أهلهما على حد قول أبي الطيب المتنبي:
إن في ثوبك الذي المجد فيه ** لضياء يزري بكل ضياء

ب- الاستعارة التمثيلية في تشبيه التمسك بأسباب السلامة بالتمسك بالحبل الوثيق وقد تدلى من مكان عال، فهو آمن من مغبة السقوط والخذلان والارتطام.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم من فنون ما تميزت به الآيتان من حسن الافتتان وجمال النسق وروعة العبارة ونصاعة البيان تبين لك إلى أي مدى وصلتا اليه من إعجاز وسمو تميز بهما كتاب الله العظيم.